الانتخابات التونسية..تعددية مخلصة للأحادية
د.خالد شوكات*
تعتبر الانتخابات في تونس من الناحية القانونية، انتخابات تعددية، حيث ستتنافس رسميا يوم 24 اكتوبر الجاري، سبعة أحزاب سياسية وعدد من اللوائح المستقلة على الفوز بمقاعد مجلس النواب، في حين سيتسابق على اعتلاء منصب رئيس الجمهورية أربعة مرشحين، يمثلون أربعة أحزاب سياسية مرخص لها قانونيا.
غير أن الانتخابات التونسية التعددية تكاد تختلف عن أي انتخابات تعددية في العالم، من حيث أن نتائجها معروفة ومحسومة سلفا، ونسبة المفاجأة فيها تساوي الصفر دون أي قدرة على التشكيك، فالفائز على مستوى الانتخابات التشريعية سيكون حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم منذ استقلال البلاد سنة 1956، بنسبة 100% من المقاعد المطروحة للمنافسة على المستوى الشعبي، أما الفائز على مستوى الانتخابات الرئاسية فسيكون بطبيعة الحال الرئيس زين العابدين بن علي، بنسبة 100% من الأصوات أيضا، سيجري تلطيفها بإنقاص نسبة طفيفة منها لن تنزع من بريقها وطبيعتها الساحقة شيئا.
ومن مميزات الانتخابات التونسية أيضا، أن أحزاب المعارضة القانونية، التي يفترض أنها منافسة التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، مسلمة بشكل مسبق بأن اقتراع الدوائر الانتخابية الجهوية حول 80% من مقاعد مجلس النواب التونسي، الذي يمنح فيه الفوز لللائحة التي أحرزت أكثر من 50% من الأصوات، لا يعنيها بالمرة، إذ لا أمل ولا قدرة لها على منافسة الحزب الحاكم فيه، وإنما كل مطامحها منصبة على ال20% من المقاعد التي حجزها القانون الانتخابي للأحزاب الخاسرة في الانتخابات، والتي تقسم عليها بحسب نسب الأصوات التي أحرزتها على المستوى الوطني.
ويبدي خبراء القانون الدستوري والمهتمون بالانتخابات وقوانينها، استغرابا للقانون الانتخابي التونسي، الذي يضمن مقاعد في المؤسسة التشريعية لا تتفق مع الإرادة الشعبية، حيث يمنح الأحزاب الخاسرة في الانتخابات كراسي في مجلس النواب، وهو ما يختلف مع التوجه العام المعروف في التشريعات الانتخابية على الصعيد الدولي، والتي تتجه إلى تحديد نسبة دنيا من الأصوات تتراوح بين 5 و10% بحسب الدول، لا يمكن للأحزاب التي لم تبلغها الدخول إلى المجالس النيابية مهما كان عدد الأصوات التي حصلتها.
ولا يجد المهتمون بالشأن الانتخابي التونسي، مبررا مقنعا لمكافأة أحزاب منبوذة شعبيا بمنحها مقاعد مجانية، وحرمان التجمع الدستوري الحاكم من حقه في الفوز بال100% من مقاعد مجلس النواب، مادامت إرادة الشعب التونسي "الحرة والنزيهة والشفافة" قد اتجهت إلى ذلك، من حيث تشبثها "غير المشكك فيه" بمسيرة حزبها العتيد الحاكم الحافلة بالانجازات، ومن حيث إدبارها عن إضاعة وقت البلاد ووقت برلمانها في نقاشات ومماحكات لا طائل ولا فائدة من ورائها، فالتجمع يعرف تماما مصلحة تونس وليس ثمة من يتهمه في إخلاصه ورجاحة وحكمة قيادته.
و المعروف أن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم في تونس، على نحو ما ذكر أحد المحللين التونسيين، يعتبر أكبر حزب سياسي في العالم قياسا بعدد سكان البلاد، حيث تقول قيادته أن عدد أعضائه قد بلغ مليونين ونصف، أي ربع عدد التونسيين، وأكثر من نصف البالغين منهم، وهو ما يعني أنه أكبر من الحزب الشيوعي الصيني الذي يحتاج إلى 700 مليون عضو حتى يكون في حجم التجمع الدستوري الديمقراطي التونسي، الذي يتفوق بلا شك على حزب بهاتريا جناتا الهندوسي الهندي والحزب الليبرالي الديمقراطي الياباني، فيما تظهر المقارنة بينه وبين الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني أو حزب التجمع من أجل الجمهورية الديغولي الفرنسي أو الحزب الجمهوري الأمريكي، وهي الأحزاب الحاكمة في بلدانها، مقارنة جائرة على كافة الأصعدة.
ويفسر متابعون للشؤون السياسية التونسية، الموقع الريادي الخارق للحزب الحاكم في تونس، بأن التونسيين – خلافا لسائر شعوب العالم أيضا- يعشقون أيما عشق "الاستقرار" ويكرهون أيما كراهية "التغيير"، وينبذون أهل الأحزاب والفتنة والطوائف على مر ثلاثة آلاف من تاريخ الدولة والسياسة على أرضهم، ولا يميلون بفطرتهم "السليمة" إلى كثرة النقاش والجدل، ويرون في الخوض في أمور السياسة بشكل عام مضيعة للجهد والمال والوقت، فهي أمور لا تعنيهم ويثقون في أن قيادتهم الرشيدة تقوم بالواجب وأكثر منه لإسعادهم وضمان بحبوحة عيشهم ورفاه أولادهم وأولاد أولادهم أيضا.
و وفقا لما حدثت به بعض المصادر التونسية، فإن ما يطمئن التونسيين على أن برلمانهم القادم لن يكون حتما على غرار البرلمانات الكثيرة المبتلاة بكثرة الصخب والانقسامات والاختلافات وتنكيد عيش الحكومات، ويشجعهم على قبول التعددية بفتور كبير وعلى مضض، هو مبادرة السلطات الإدارية الجهوية إلى إسقاط لوائح لبعض الأحزاب التي أبدت بعض الشغب في السنوات الأخيرة، على غرار حزب التجمع الديمقراطي التقدمي أو حركة التجديد، اللذين تنكرا فيما يبدو لمعروف الترخيص لهما بالعمل القانوني ولم يظهرا من الامتنان الواجب أخلاقيا للقيادة بما يتفق والعرف السائد في البلاد منذ سنين، وهو ما يعني عمليا حرمانهما من حصة في المقاعد المخصصة للمعارضة السعيدة، وتلقينهما درسا جديدا لن ينسياه في ضرورة التأدب مع السلطان ومحاسن طاعة أولي الأمر والشأن.
أما بالنسبة للانتخابات الرئاسية، فإن المغبط بالنسبة لعموم التونسيين، أن المرشحين الذي تقدموا لمنافسة الرئيس زين العابدين بن علي، إنما فعلوا ذلك ليس من باب نكران الجميل أو تجاوز الأدب الواجب حيال صانع التغيير، بل كان كل همهم تحقيق أمنية الرئيس بن علي في أن يكون أول رئيس دولة في تاريخ البلاد التونسية، منذ الحاكمة الفينيقية عليسة (أو آليسار كما يقول الأخوة اللبنانيون) إلى اليوم، الذي يشرع لانتخابات رئاسية تعددية، ويخوضها بكل ثقة واقتدار، ودون خوف على تقاليد الدولة وأعرافها في ضرورة إحراز الرئيس النسبة الكاملة من التأييد التي تمكنه من الاستمرار في قيادة مسيرة التنمية المظفرة والانجازات.
ولم يخف المنافسون للرئيس بن علي في انتخابات الرئاسية التونسية، خلفية ترشحهم المرتبطة برغبة رئيس البلاد الجامحة في ذلك، مثلما أكدوا في أكثر من مناسبة على أنهم لا يقدرون على خذلان تطلع الزعيم التونسي إلى رؤية بلاده تلتحق بركب الأمم المتقدمة التي تقدم بين الفينة والأخرى على تنظيم انتخابات رئاسية أو تشريعية تعددية، وإن كانوا يرون أنه لا مبرر لتقليد هذه الأمم في كل شيء، على نحو يمكن تونس من الحفاظ على عاداتها وتقاليدها على مستوى الإجماع والنتيجة.
غير أن بعض العارفين بالشأن التونسي، يلومون القيادة التونسية في التعديل الذي أجري على القانون الانتخابي التونسي على نحو أصبح يمكن "كل من هب ودب" للترشح للرئاسة، حيث كان لزاما الإبقاء على شرط الاقتصار على زعماء الأحزاب المعترف بها قانونيا والممثلة في البرلمان في الترشيح لمنافسة الرئيس بن علي، لا إتاحة الفرصة أمام أعضاء المكاتب السياسية لهذه الأحزاب أيضا، مما يمكن أستاذا جامعيا مغمورا من قبيل الحلواني ممثل حركة التجديد، ليضع رأسه برأس القادة، بل ويزعم أنه مرشح المعارضة الوحيد.
ولئن كانت القيادة التونسية على ثقة بأنها ستضع كل مرشح في مكانه الصحيح وستبوئه المكانة التي يستحق، فإن الشعب التونسي المعروف بشدة حبه و ولائه وإخلاصه ووفائه لقادته وزعمائه، سيلقن الحلواني عبرة ستظل بلا شك محفورة في ذاكرته، عندما سيتبين له أن عدد الأصوات التي حصل عليها لن تبلغ حتى عدد أفراد عائلته، ولعله بذلك سيكون علامة تبرز في وجه كل من تحدثه نفسه بحديث مشابه، فالتونسيون لن يقبلوا على أنفسهم أبدا بأن تلحق الانتخابات الأذى بما يتطلبه موقع الرئاسة من هيبة وسطوة ومكانة سامية.
ولعل بعض التونسيين العقلاء يتساءلون اليوم بشدة: لماذا يحشر وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أنفه في الانتخابات التونسية و بأي حق يشترط النزاهة والحرية والشفافية؟
* مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي - لاهاي